اليوم وغداً ولألف عام...ابكِ.. ابكِ وسأبكي معك ندماً على خيانتي أنا وجيلي من الشباب الصامت.. ابكِ وسأبكي معك خجلاً من دمعك المنهمر دماً يحرقنا مرارةً وأسىً..
ابكِ يا أيها الحبيب على فوضى حالك..
ابكِ على أخطاء الماضي وخيبات الحاضر وعثرات المستقبل.. ابكِ على حرية مقيدة وكرامة عجفاء وفكر عاقر وأحلام منهكة.. ابكِ على عقل قاحل وروح فارغة ووعي ضال.. ابكِ على كبوات متلاحقة وفرص ضائعة.. ابكِ على ربيع دمشقك الذي صار خريفاً عقيماً اغتال "الوردة الدمشقية" وقتل عبق الياسمين..
ابكِ على إصلاحات قُتلت أثناء مخاض حمل كاذب.. وعلى ثورة مشوهة في رحم نازف.. ابكِ على أبناء انصرفوا عنك بعبادة الأصنام وتفرغوا لاعتناق عقائد معلبة منتهية الصلاحية، لم ولن تناسبك قط.. ابك على شعب اعتنق التعصب ديناً والحقد مذهباً والفساد معتقداً.. ابكِ على شباب اتخذوا من "دون كيشوت" قدوةً ومن مقارعة طواحين الهواء مبتغى..
ابكِ على مثقفين تبنوا النفاق لا القلم سلاحاً.. وعلى فنانين اعتمدوا التملق لا الإبداع أداةً والابتذال لا الرقي رسالة.. ابكِ على عقول هاجرت أسراباً وعلقت ما بين السماء والأرض بحثاً عن أشباه وطن في غربة لا ولن ترحم! ابكِ على أحرار تحولوا أرقاماً على مدى عقود مضت خلف قضبان "المنفردات" لحل معادلة حريتي أنا وحريتك أنت وحريتنا جميعاً..
ابكِ على شهدائك، مدنيين كانوا أم عسكريين، لأنهم يا وطني "لا يدرون لماذا يُقتَلون"!!
ابكِ أيها الحبيب لأن في قاموس السياسة اليوم كلمة جديدة هي "لاجئ سوري".. نعم لا تستغرب "لاجئ سوري".
ابكِ.. ابكِ حسرةً لأنّنا نتجاهل آلام جراحك النازفة وندوبك المتقرحة.. لأننا، أنا وهو، كل ما قمنا به إلى الآن تقاذف اتهامات الخيانة فيما بيننا.. ابكِ بحرقة لأننا أمام حقيقة شوهت كذبتنا اللذيذة التي لم تكن بيضاء على الإطلاق.. حقيقة أننا الأخوة لسنا واحداً كما ظنت براءة طفولتنا، وإنما منقسمين على كليتنا بين "مع" و"ضد".. أنا "مندس" وهو "منحبكجي"، هؤلاء "شبيحة" وأولئك "ثوار"، هم "معارضون" وهؤلاء "موالاة"، نحن "خونة" وهم "وطنيون" ووووووو.... ابكِ لأننا نتحدث الآن بمنطق السني والعلوي والمسيحي بعد أن كنا نرسم إشارة الصليب مع صوت الآذان.. لأننا غدونا مصنفين بين كردي وأرمني وسرياني وحلبي وشامي وحمصي وحموي ولادقاني بعد أن كنا نختبئ جميعاً من المطر تحت مظلة سورية واحدة..
ابكِ لأن بعض أبنائك من هنا وهناك آثروا تقديمك قرباناً للآلهة الصنم.. لأن مرتزقتك جعلوا جسدك مباحاً يمنةً ويسرة غير مدركين أن عذريتك أبدية لا يمسها دنس.. ابكِ أيها الغالي لأن من يسمون أنفسهم "حماةً" لا يعون تماماً قدسية صون الوطن.. لأن من يدعون أنفسهم "ثواراً" لا يدركون جميعاً حُرمة الحرية التي تجرح حناجرهم!
ابكِ وسأبكي طويلاً على كتفك المثقل بأوزارنا جميعاً.. كيف لا وأنت يوسف الذي باعه إخوته بيعاً حراماً بأبخس ثمن.. سأبكي لأن الدرب طويلة والمخاض عسير.. لأنك لابد من أن تتحمل ظلم العزيز لمدة قد تطول وقد تقصر!! ولكنني لا أزال أعوّل على قميصك المخضب بالدم ليكشف خيانتهم كلهم ولو بعد حين.. نعم أستطيع أن أسمع لسان حالك يقول بأن ذلك لا يجدي نفعاً!! أعلم ذلك.. لكن ماذا عساي أفعل؟ ماذا عساي أقول؟!
أي حالٍ وصلت إليه أيها الحبيب؟؟!!
أأبكي على حالك؟ أم على حالنا؟ أم على حالهم؟؟!
إنني أموت!! أموت خوفاً من "نهاية وطنٍ شجاع".. وهو يموت رعباَ من "مئة عامٍ من الضياع والعزلة".. هؤلاء يستميتون في سبيل كرامة عرجاء، أما أولئك فيستميتون في سبيل حرية صماء!
إنني أموت هلعاً من حصان "الطائفية" من أن يحولنا إلى طروادة القرن الحادي والعشرين.. وهو يموت ذعراً من صندوق Pandora الذي فتحناه على أنفسنا غير مدركين ما ستؤول إليه حالنا.. هؤلاء يستميتون حفاظاً على مجد زائف غير آبهين بأن "ما بُني على باطل فهو باطل".. أما أولئك فيستميتون بحثاً عن فردوس ضائع مغمس بدم ذاك "الصدّيق"!
أموووت ألماً من رؤيتك جسداً منهكاً مهشماً وأنا أقف لا حول لي ولا قوة! وهو يموت خشيةً من رميات لن تألو جهداً لاقتناصك.. أما هؤلاء فيستميتون في تخوين من بقي لنا من رجالات زمن جميل معطر بعبق الوطنية.. وأولئك يستميتون في فرض أشباه رجال لرسم زمن مقزز يقطر سفهاً وقباحة.
أموت تعباً من حنينٍ أثقل كاهلي رغم فتوته.. حنين إلى رائحة الأمان بين ثنايا حاراتنا.. حنين إلى عذوبة شبابنا الهرم المتناثر على سلم الخيبات ودفء ذكرياتنا المرمية على عتبات الانكسار.. أما هو؟ ذلك المسكين؟! هو يموت حزناً على أحلامنا المختنقة تحت نعال من مروا من هنا.. حزن أدمى قلوبنا الصغيرة التائهة.. أما هؤلاء؟! فيستميتون دفاعاً عن وجودٍ لا وجودَ له.. وأولئك يستميتون تحقيقاً لهدف لا رجاء منه.
إنني أموت قهراً على وطن فقد ملامحه تحت نير التعذيب وسفك دمه على الصليب.. أما هو فيموت وجعاً من طعنات اخترقت آمالنا الهزيلة وأوقفت نبض ضحكاتنا العجولة، في وقتٍ يستميت فيه هؤلاء في تجميل قبح فكر عفن، وأولئك في تشويه جمال أزلي لحسناء اسمها سوريا.
متّ ومات.. ومتنا سوياً في حب وطن ضاع إلى الأبد بين هؤلاء وأولئك!! ونحن نتخبط بين أفكار متلاطمة لا تعرف السكينة.. "أي مصير سيكون لنا بينهم؟! أيحرقون جسدك؟ أيبيعون أشلاءك؟ أيقطعون أوصالك؟! لا لن يفعلوا هذا بك! أو قد يفعلون كل ذاك؟! هذياني لم يعد يعي شيئاً.
وأنت! أأقول لك سامحني؟!
لا.. لا لن أطلب منك المغفرة لأنني أدرك أن خطيئتنا كبيرة.. لكنني سأصلي! سأصلي بكل ما يأتيني من ألسنة مزركشة بلغات شتى ومعتقدات بيضاء أو سوداء، سماوية كانت أم أرضية..
سأصلي يا وطني ببراءة الطفولة لتعود الجنيات وتسحرك عروساً تزغرد لنفسها فرحاً بمحمد وعلي وعيسى وهم يزينون "الطرحة" احتفالاً بقدوم الميلاد أو حلول رمضان..
سأصلي بوقار الشيخوخة لتعود عجوزاً قديراً هادئاً فأكبر على مهل بين أغصانك الهرمة، أتفيأ بظلال لحيتك الجليدية متأملاً ثنيات تجاعيدك المتراقصة على أنغام زمن تفوح رائحته من بين كفيك في المسجد الأموي وقبر يوحنا المعمدان..
سأصلي بحنان الأمومة لتعود طفلاً هانئاً فأعتني بك من جديد لتكبر وتكبر وتكبر.. لنكبر سوياً.. أو يمكننا أن نقرر ألا نكبر وندندن معاً "تا نكبر بعد بكير شو صاير شو صاير"!..
سأصلي بعزيمة الرجولة لتعود شاباً قوياً فتحملني عالياً وأطاول بك الغيوم وأقطف نجمتين لأرسم علماً يرفرف فوق قلوبنا جميعاً احتفالاً بسوريتي أنا وسوريتك أنت وسوريته هو، بسوريتنا كلنا.
سأصلي وأصلي وأصلي... سأصلي لأموت أنا ويموت هو وهؤلاء وأولئك.. لنموت كلنا وتبقى أنت!!..
سأصلي اليوم وغداً ولألف عام.. ولكن هل تكفي صلواتي يا وطني؟!
رزان طيار